سورة الأنعام - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)}.
التفسير:
ومن هذا الموقف الذي سيقوا فيه إلى يوم القيامة، وإلى الحساب والمساءلة، وقطع الحجة عليهم- من هذا الموقف ردّوا إلى موقفهم الأول، حين كانوا في مواجهة النبىّ، وفى عنادهم له، وتصدّيهم لدعوته.
وكان الجدير بهم- لو عقلوا- أن تتأثر وجداناتهم بهذه الإثارات التي تتغيّر بها معالم الوجود في أعينهم، حين ينقلون من الدنيا إلى الآخرة، ثم يردّون من الآخرة إلى الدنيا.. ولكنهم ظلوا على حال واحدة، حتى لكأنهم أحجار لا تحسّ ولا تعقل.
وفى قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} استحضار لهؤلاء المشركين الضالين من موقف الحشر، الذي نقلتهم إليه الآيات القرآنية السابقة نقلا قاهرا، وأحضرتهم مشاهد المحاكمة والمساءلة- إلى ما كانوا فيه من مواجهة النبىّ، وتحدّيه، وتكذيبه، والاستهزاء به.
فمن هؤلاء المشركين الضالين من يستمع إلى النبىّ، وما يرتّل من كلمات اللّه، ولكنه استماع لا يحدث فيهم أثرا.. فلا تنفذ كلمات اللّه إلى آذانهم، ولا تبلغ مواطن الإحساس من قلوبهم، فقد أصمّ اللّه آذانهم، وأعمى قلوبهم.
{إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً} [57: الكهف] والأكنّة جمع كنان، مثل قناع وأقنعة، وزنا ومعنى، أي أنه ضرب على قلوبهم حجاز يقطع ما بينها وبين موارد العالم الخارجي، فلا تحسّ شيئا، ولا تنفعل لشىء.
والوقر: الصمم يصيب حاسة السّمع.
فقد ختم اللّه على قلوب هؤلاء القوم، وعلى سمعهم، فلا يسمعون خيرا، ولا يعقلونه، فهم- والحال كذلك- لن يهتدوا أبدا، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها}.
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [41: المائدة].
وختم اللّه على القلوب، هو تركها على ما هى عليه من ضلال وعمى.. دون أن يمدّها بأمداد لطفه، وعونه، إذ كانت هى لا تستجيب لخير، ولا تتقبل هدى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [23: الأنفال].
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ} يكشف عن طبيعة هؤلاء القوم.
وأنهم لا يتحركون إلا إلى الشرّ، ولا يعملون إلا لما هو شرّ.
فهم إذا جاءوا إلى النبىّ، لم يجيئوا لطلب حق، أو تعرّف على خير، وإنما هم يجيئون للمجادلة، والسّفاهة، والاستهزاء.. إن الحال التي تتلبس بهم، وتستولى عليهم، وهم يسعون إلى لقاء النبي، والاستماع إليه- هى المجادلة، والمماحكة، ولا شيء غير هذا.
وقوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هو بيان لما تكشفت عنه حالهم، وانتهى إليه أمرهم، من هذا الموقف الذي جاءوا فيه إلى النبي، مستمعين مجادلين، لا طلاب علم واستفادة.
والأساطير جمع أسطورة، وهى ما كان من واردات الخيالات والأوهام، وملفقات الأحاديث.. فهذا هو حكمهم على ما استمعوا إليه من كلام اللّه: {إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وتلك هى أسلحة المكابرين المعاندين في معركتهم الخاسرة مع الحق.. فحين تسقط من أيديهم كل حجة، يلقون بهذه الترهات وتلك الأباطيل، لتكون وقاية لهم مما لبسهم من خزى وما لحقهم من هزيمة.
وفى وصفهم بالكفر، هكذا: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بدلا من أن يقال:
{يقولون} هو حكم عليهم بالكفر، وإدانة لهم به، إذ قالوا عن القرآن الكريم: {إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
وقوله سبحانه: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.
الضمير في {عنه} يعود إلى القرآن الكريم، الملحوظ في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}.
وجناية هؤلاء المشركين هنا جناية غليظة، وجرمهم فظيع شنيع.. إذ لم يكتفوا بأن يكفروا بالقرآن، ويقولوا فيه ما يقولون، من زور وبهتان، وإنما وقفوا في وجه من يطلبون الهدى منه، وحالوا بينهم وبين النبىّ أن يلقوه وأن يسمعوا كلمات اللّه منه.. وفدّم نهيهم الناس وصدّهم عن لقاء النبىّ والاستماع إليه، على نأيهم هم بأنفسهم عنه، وعزل عقولهم وقلوبهم عن لقائه، وهم إنما صدّوا أولا وكفروا، ثم كانت فعلتهم بعد هذا هى نهى غيرهم، وضمهم إلى جانبهم- ولكن لما كان صدّهم الناس عن رسول اللّه أمرا واقعا، وحكما قاطعا، ولم يكن أمرا مستحدثا منهم، وإنما الذي استحدثوه بعد أن أخذوا هذا الموقف لأنفسهم، هو أنهم جاءوا إلى غيرهم ليأخذوا معهم هذا الموقف الذي هم فيه- فكان من الحكمة في لقاء المجرمين بجرمهم، أن يواجهوا أولا بما أحدثوا من جرم وهو صدّ الناس، ثم يساق إليهم بعد ذلك ما كان لهم من سابقة في هذا الباب، وهو صدّ أنفسهم.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} كشف للمصير السيّء الذي صيّرهم إليه هذا الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم، من الصدود عن دعوة الإسلام، وصدّ الناس عنها.. إنهم أهلكوا بذلك أنفسهم، وأوردوها موارد البوار والخسران، وإن كانوا لا يشعرون أنهم إلى هذا المصير هم صائرون، لما استولى عليهم من غفلة، وما غشيهم من ضلال.
وإن في قوله تعالى: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} نافية، بمعنى ما.


{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
هو ردّة أخرى لهؤلاء المكذبين الضالين، إلى موقف الحساب والجزاء في الآخرة.. وفى كل مرّة يواجهون في الآخرة، التي حشروا إليها حشرا وهم أحياء في ديارهم وبين أهليهم- يواجهون مرحلة من مراحل الحساب في هذا اليوم العظيم.
ففى المرّة الأولى ووجهوا بشركهم: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}.
ففى هذه المواجهة كشف لهم عن التهمة، وعن تلبّسهم بها، دون أن يستمعوا إلى الحكم وإلى العقوبة التي يؤخذون بها.
ثم ردّوا إلى الدنيا مرّة أخرى، ليواجهوا النبىّ من جديد بكفرهم وعنادهم وليصلوا ما انقطع، بهذه الرحلة التي حشروا فيها للحساب والمساءلة، وليلقوا النبي بما كانوا يلقونه به من تكذيب واستهزاء.
ثم هؤلاء هم يردّون مرة ثانية إلى موقف الحساب يوم القيامة، ولكن لا ليحاسبوا من جديد، فقد حوسبوا من قبل، وأسقط في أيديهم، وقامت الحجة عليهم، وإنما ليستمعوا إلى الحكم في جنايتهم التي جنوها على أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}.
فهاهم أولاء على حفير جهنم، يساقون إليها سوقا عنيفا.. ولكنهم ما إن يعاينوا هذا البلاء الذي يفتح فاه ليبتلعهم، حتى يضطربوا ويفزعوا. ويقولون: {يا لَيْتَنا نُرَدُّ}؟ وأنّى لهم أن يردّوا؟ ثم ماذا تنفعهم الرّدّة إلى الحياة مرة أخرى؟ ألم يكن فيما عرض اللّه عليهم من موقف الحساب والجزاء، وهم في دنياهم التي كانوا فيها- ألم يكن في هذا تجربة لهم، لو أنهم أحسنوا النظر إليها، وانتفعوا بمعطياتها؟
إنهم لن يرجعوا أبدا عما هم فيه من ضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآية الواردة بعد هذا في قوله سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
وفى قوله تعالى: {يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا} ما يسأل عنه.
وهو: ما وجه النصب للفعل {ولا نكذب} مع عطفه على الفعل المرفوع قبله:
{يا لَيْتَنا نُرَدُّ}؟
القراءة المشهورة: {ولا نكذب بالنصب} وقد قرئ {ولا نكذب} بالرفع عطفا على {نردّ}.
ووجه النصب أن {ليت} تفيد التمني، بمعنى نتمنى أن نردّ، ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.. فسلّطت على الفعل {نردّ} باعتبار، لفظها، ثم سلطت على الفعل {نكذب} باعتبار معناها! وقوله تعالى: {بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} هو إضراب على أمانيّهم التي تمنوها، وتيئيس لهم منها، لأنها أمان لم تجىء إلا عن خوف وهلع من هذا الموقف الذي هم فيه، حين انكشف لهم ما كانوا يخفون من شرك باللّه، وما يجرّهم إليه هذا الشرك من مصير مشئوم، وعذاب أليم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} هو فضح لكلماتهم الكاذبة، التي أجراها على ألسنتهم سوء الموقف، ولفح السعير!! وقوله تعالى: {وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
هكذا كان دينهم في الحياة الدنيا، دين يقطع أصحابه عن النظر فيما وراء هذه الحياة الدنيا التي استغواهم فيها الغىّ، وركبهم الضلال، فأضافوا وجودهم كله إلى هذه الأيام التي يعيشونها من مولدهم إلى موتهم.. ومن هنا أخذوا كل ما قدروا على أخذه في الحياة، بحق أو باطل، وأغرقوا أنفسهم فيما وقع لأيديهم من مطعوم أو مشروب، حلالا كان أو حراما.. إنهم أشبه بالجنود ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، ينفقون فيها كل درهم معهم، ثم يغدون إلى الحرب مفلسين، إذ لا ينتظرون حياة بعد يومهم هذا!


{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)}.
التفسير:
وهذا مشهد آخر من مشاهد القيامة، يساق إليه المشركون، وهم أحياء في دنياهم التي آمنوا بها وأنكروا ما وراءها.. من بعث، وحساب وجزاء.
وهم في هذا المشهد يتقلّبون في النار، التي حكم عليهم بها، في المشهد السابق، حيث قال تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ... الآية} وحيث كان لهم قبل مشهد الحكم مشهد آخر، هو مشهد المحاكمة، في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.
فهم وقد انتهى بهم المطاف إلى النار، يصلون سعيرها، ويذوقون عذابها- لن يتركوا هكذا وما هم فيه من بلاء، بل يسألون سؤال تأنيب، وتعذيب:
{أليس هذا بالحق؟} أي أليس هذا اليوم وما تلقون فيه، قد جاءكم بالحق الذي كنتم تكذبون به؟
وفى حسرة قاتلة، وفى أنفاس لاهثة مبهورة، وفى كلمات حزينة متقطعة دامية، تتحرك شفاههم بها في إعياء وتثاقل- يجىء منهم هذا الصوت الخفيض في أنين ذليل: {بلى وربنا}.
هذا هو جوابهم، وهذا هو ما استطاعوا أن يحركوا شفاههم به.. كلمتان من أخف الكلمات، وأقلها حروفا، ولو استطاعوا النطق لأكثروا من القول والاعتذار في هذا المقام، ولو جدوها فرصة في إظهار النّدم، والاستعطاف! ولكن أنّى لهم ذلك وهم في هذا البلاء العظيم؟
{بلى وربنا} هكذا جوابهم.. نبرتان هامستان، يخطفانهما من كيانهم خطفا، ثم يعودون إلى أنفسهم في لهفة، حتى لكأنهم يحاولون إطفاء النار المشتملة عليهم..!
ولكنهم ما يكادون ينصرفون إلى أنفسهم، يعالجون الهمّ الذي هم فيه، حتى يقرعهم صوت الحق: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، وإذا النار تشتد سعيرا، وتعلوا لهيبا، لتذيقهم العذاب الذي آذنها به اللّه سبحانه وتعالى أن تذيقهم إياه!! وفى قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ} هو مقابل لقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} فالمراد بالوقوف هنا الحبس المقيم، يقال وقف فلان نفسه على هذا الأمر، أي لزمه، ولم يتحوّل عنه- ومنه قول إمرئ القيس:
وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها} هو تقرير عن هذا الموقف، الذي انكشف فيه للكافرين ما كانوا فيه من غفلة وضلال، وفى هذا التقرير، يرى كل ضال غافل، المصير الذي ينتهى به ضلاله وغفلته إليه، وهو الخسران والضياع والهلاك.
{حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي فجأة على غير انتظار، إذ كانوا على تكذيب قاطع بهذا اليوم، فإذا طلع عليهم كان ذلك مباغتا لهم ومفاجئا.
{قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها} وإنها لحسرة تطول، لا نهاية لها، حيث أفلت من أيديهم ما كان يمكن أن يعدّوه لهذا اليوم الذي أنكروه، ولم يعملوا له حسابا.
والتفريط: التقصير، بخلاف الإفراط، الذي هو المبالغة في المطلوب، وتجاوز الحدّ فيه.
والضمير في قوله تعالى: {فِيها} يعود إلى الساعة، وهى يوم القيامة قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ}.
الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل.. أي أنهم يجيئون إلى يوم القيامة محملين بأحمال ثقيلة، من الآثام، تنوء بها ظهورهم.. {أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} فما أشأم ذلك الحمل، وما أسوأه، إذ كان هو الجريمة التي تدين حامله، والشهادة التي تشهد عليه، وتجرّه إلى النار.
وقوله تعالى: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} هو تعقيب على هذا الحكم الذي حكم به سبحانه على أهل الضلال والكفر.. فقد غرّتهم الحياة الدنيا، وألهتهم عن الآخرة، فلم يعملوا لها ولم يقدموا ليومها، زادا ينفعهم في هذا الموقف العصيب.
وهكذا هى الدنيا، لعب ولهو، إذا وقف الإنسان نفسه عليها، وحبس وجوده على مظاهرها، دون أن يلتفت إلى ما بعدها، من لقاء اللّه، وموقف الحساب بين يديه.. ولكنه إن التفت إلى الآخرة التي وراء هذه الحياة الدنيا، لم تكن هذه الحياة الدنيا لعبا ولهوا، وإنما تكون حياة جادّة عاملة، تجمع الدنيا والآخرة معا، وبهذا تتفتح أمام الإنسان آفاق فسيحة للعمل الطيب المثمر، الذي إن فاته حظّه منه في الدنيا، فلن يفوته ثوابه العظيم منه في الآخرة.. ومن هنا كانت حياة المؤمنين باللّه واليوم الآخر، حياة عامرة بالعمل والكفاح والجهاد.
إذ كان على المؤمن أن يملأ بوجوده وكفاحه دنياه وآخرته جميعا.. أما الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، فإن حياتهم فراغ في فراغ، يدورون فيه حول أنفسهم، كما يدور الأطفال في لهوهم ولعبهم.
قوله تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إذ عملوا لها، وآثروها على الدنيا، وقدّموا ما يبقى على ما يفنى، فكانت عاقبتهم السلامة والعافية، والخلود في جنّات النعيم.
وفى قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} إثارة لذوى العقول أن ينظروا لأنفسهم، وأن يزنوا أمرهم مع الدنيا على ميزان سليم.. فإنهم لو فعلوا لعرفوا أن الدار الآخرة خير وأبقى!

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8